The 2nd part of the arabic translation of the article The Khilafah and the Indian Subcontinent been published in Al-Waie Arabic Magazine, it is available on: http://www.al-waie.org/issues/242/article.php?id=503_0_39_0_C
أبو إسماعيل البيرواي
الخلافة وشبه القارة الهندية (2
إن من يقرأ كيف تفاعلت الهند وعلماؤها مع أحداث إلغاء الخلافة ليأخذه الإكبار على فهمهم العميق والمشرق لأهمية الخلافة في حياة المسلمين، ولوعيهم الكامل لدورها في جمع المسلمين وتحقيق أهداف الإسلام، ولمدى خطورة هذا الحدث عليهم، ويلفته كذلك موقفهم من تلك اليد المجرمة التي طعنت الأمة الإسلامية في قلبها «الخلافة»، تلك اليد التي هي بريطانيا التي سخرت أيدي الخونة من أبناء المسلمين الذين غمسوا أيديهم في دماء إخوانهم...
والجزء الثاني من هذه المقالة يكشف المواقف الصادقة والمخلصة لبعض علماء الهند الذين مضوا لأمر ربهم لتبقى آثارهم تدل عليهم، وتنقل لوعتهم بكلمات صادقات مازالت حتى اليوم تشهد الوقائع بصدقها وإخلاصها ووعيها... وكفى بالله شهيداً.
________________________________________________________
حركة الخلافة
بدأ في سبتمبر 1919م مولانا محمد علي وأخوه شوكت علي بالمشاركة مع أبي الكلام أزاد، ودكتور مختار أحمد أنصاري وحسرت مهاني، بدأوا منظمة جديدة باسم (حركة الخلافة) في الفترة (1919م - 1924م). كان هدفهم المعلن عمل كل ما يمكن عمله من أجل حماية الخلافة. فنظموا مؤتمرات خلافة في عدة مدن شمال الهند. ومن الملاحظ أن العلماء والنشطاء الذين كونوا حركة الخلافة جاؤوا من مذاهب متعددة وخلفيات فكرية مختلفة. فمولانا أبو الكلام أزاد مثلاً معروف أنه يجتهد ولا يقلد، حيث كان يعتقد أن تقليد المذاهب حرام. أما مولانا محمود حسن فكان ديوبندياً يتبع المذهب الحنفي، ومع هذا اتحدوا معاً تحت هدف العمل للحفاظ على الخلافة.
وفي عام 1919م لما بدأ مصطفى كمال يسرِّب إمكانية فصل الخلافة عن السلطنة أي عن الحكم، أعلنت لجنة الخلافة في بومباي هدفين تنظيميين مهمين وهما: «الأول هو الحثّ على احتفاظ سلطان تركيا بوصفه خليفة بسلطاته الدنيوية. أما الثاني فهو ضمان استمرار سيادته على الأماكن الإسلامية المقدسة».
وفي خطابه الرئاسي في اجتماع كلكوتا لمؤتمر الخلافة الإقليمي البنغالي عام 1920م بحث مولانا أزاد أهمية الخلافة معلناً: «إن هدف هذه المؤسسة هو تنظيم وقيادة الأمة الإسلامية في الطريق الصحيح لإقامة العدل وتحقيق السلام ونشر كلمة الله في العالم. ومن أجل كل ذلك كان من الضروري جداً للخليفة أن يمتلك السلطة الدنيوية». لم يكن هناك شكّ لدى مولانا أزاد «أنه بدون إمام فإن حياتهم غير إسلامية وأنه سيحكم عليهم بالإثم بعد الموت».
نشر مولانا أزاد عام 1920م كتاباً بعنوان (مسألة الخلافة) حيث قال فيه: «بدون الخلافة لا يمكن وجود الإسلام، ويلزم أن توجّه كل جهود المسلمين في الهند من أجل هذا الهدف».
ويقول مولانا أزاد في الكتاب نفسه في صفحة 176: «يوجد نوعان من الأحكام الشرعية: الأول يتعلق بالفرد كالأوامر والمحرمات والفرائض والواجبات من أجل تهذيب النفس. أما الثاني فلا يتعلق بالفرد بل بالأمة والواجبات الجماعية وسياسات الدولة مثل فتح البلدان والقوانين السياسية والاقتصادية».
وكما يقول بيتر هاردي فإن مولانا أزاد كان يعتقد بأن: «المسلم الذي يريد فصل الدين عن السياسة هو في نظر المسلمين مرتد يعمل بصمت».
كانت خسارة السلطة السياسية في الهند لصالح الإنجليز، وكونهم أصبحوا المتسلطين على الهند، وكذلك التهديد من مجموعة من القوى وتحركها على نزع السلطة الدنيوية من الخليفة، كانت هذه الأمور مقلقةً جداً لقادة المسلمين في الهند لدرجة أن بعضهم شعر بضرورة إصدار فتاوى «لصالح الهجرة من الهند».
أصدر مولانا أبو الكلام أزاد فتوى نشرت في الجريدة اليومية «أهل الحديث» الصادرة في أمريستار في 30 تموز 1920م، حيث حثّ في هذه الفتوى على الهجرة من الهند كخيار بديل لعدم التعاون مع البريطانيين.
ذكرت فتوى مولانا عبد الباري «بأن كل مسلم مقيم هنا عليه تبني عدم التعاون، ولكن إذا كان مستحيلاً فعليه أن يشرع في الهجرة». وأصدر مولانا شوكت تصريحاً باسم لجنة الخلافة المركزية «يعبر عن الأمل بأن يبقى المسلمون الملتزمون في الهند، وأن يعملوا من أجل عدم التعاون. ولكنه فقط في حالة عدم نجاحهم في ذلك يمكنهم النظر في اللجوء إلى خيار الهجرة». كان تأثير الفتوى مثيراً لدرجة أن آلافاً من المسلمين فضلوا مغادرة دار الكفر حيث انتهِكت حرمة حقوقهم الدينية المتمثلة في منصب الخليفة العثماني.
لم تكن مسألة الخلافة مسألة سياسية فحسب ولكن مسألة «الخلاص من الخطيئة أو الوقوع فيها». فإذا فقدت تركيا أقاليمها، فسيكون الإسلام كمبدأ في خطر. وقد أفصح مولانا شوكت عن عاطفته في خطابه الرئاسي في الاجتماع العاشر لمؤتمر الخلافة لكل الهند في 27/12/1923م قائلاً: «طالما كان هناك بوصة واحدة من جزيرة العرب تحت نفوذ غير المسلمين فلن يهدأ بال المسلم». (مسلمو الهند، شان محمد، ميناكشي براكاشان، 1981م، المجلد السابع، صفحة 209).
وقد شدّد محمد عاصف على أهمية الواجب الشرعي في وجود الخلافة في كتاب بعث به إلى محرر صحيفة الرفيق (كومريد) في 2 تشرين ثاني عام 1921م، حيث قال: «هيبة تركيا تتطابق مع هيبة الإسلام، ووجود الدولة العثمانية ضروري للتقدم الحياتي (الدنيوي) للسلالات (الشعوب) الإسلامية... وسيختفي الإسلام كقوة حضارية بحلّ الدولة العثمانية... وإذا سقطت تركيا فالإسلام لا يستطيع الصمود. لذلك فإن تركيا هي العمود الفقري للإسلام». وأيّد وجهة النظر هذه مولانا محمد علي الذي أكّد بأنّ هذا الموقف يعكس أيضاً الرأي العام لعامة المسلمين.
قرر اجتماع أنجومان معيد الإسلام تحت رعاية فرانجي محل في لوكنو في 26/1/1919م بأنه: «في الوقت الذي يعبر اجتماع علماء فرانجي محل هذا عن ولائه الثابت والمخلص للسلطان محمد السادس، فإنه يعلن بشكل مؤكد بأنه حسب عقائد الإسلام الصحيحة لا أحد غير سلطان تركيا الحالي يعتبر الخليفة الشرعي، وأن الإسلام لا يسمح أبداً بتدخّل غير المسلمين في تقرير مسألة الخلافة».
وفي الحقيقة أكّد آنذاك كثير من العلماء أمثال سيد سليمان ندوي على وجوب وجود خلافة. صرّح مولانا الندوي أنّ: «العلاّمة نصفي والإمام رازي والقاضي أوزود ضمن علماء آخرين كبار يبحثون الموضوع مع الرعايا بإسهاب في كتبهم وسيعتبر ذلك الكلمة الفصل في المسألة...
وجاء في كلمة ألقاها مولانا محمد علي في باريس عام 1920م: «تعتبر الخلافة أكثر مؤسسة ضرورية للأمة الإسلامية في العالم. والأغلبية الساحقة من المسلمين في العالم يعترفون بسلطان تركيا كأمير للمؤمنين وكوريث لخليفة نبيهم. وكجزء جوهري من هذا المعتقد أن يكون للخليفة، أمير المؤمنين، أقاليم كافية ومقدرات عسكرية وبحرية مناسبة وموارد مالية ملائمة».
وقال سيد حسين الذي شارك محمد علي منصة اجتماع باريس: «إذا كان للإسلام أن يوجد في العالم فمن الضروري تماماً أن يكون للإسلام خلافة. هكذا كان التاريخ والعرف في الإسلام منذ نشأته قبل 14 قرناً».
وقال مولانا محمد علي جوهر أيضاً: «كان حاكم تركيا هو الخليفة وخليفة النبي وأمير المؤمنين، ومن الضروري أن تكون الخلافة همّنا الديني شأنها شأن القرآن وسنة النبي». (حياتي شظية، محمد علي جوهر، ص41).
ولقد تولّى العلماء في الحقيقة دوراً قيادياً في حركة الخلافة. وهذه بعض النقاط الأساسية التي وردت في مؤتمر عقد من قبل العلماء في الهند 5 و6/4/1920م، حيث حضره كثير من العلماء:
النقطة الأولى: يجب أن يعمل العلماء لإيجاد رأي عام لقضية الخلافة.
النقطة الثانية: يجب مقاطعة العلماء المنافقين والعلماء المعارضين لهذه القضية.
النقطة السابعة: يجب أن يأخذ العلماء عهداً من أتباعهم بأن يبذلوا حياتهم وقلوبهم للحديث والكتابة في دعم قضية الخلافة.
النقطة التاسعة: يجب أن يبتعد المسلمون عن الانتخابات الدستورية.
وهذه بعض النقاط من الإعلان الصادر عن مؤتمر كل الهند الثاني لجمعية علماء الهند الذي عقد في 19 و20/11/1920م في دلهي التي تبين أيضاً مساندتهم لقضية الخلافة:
- الإنجليز هم أكبر عدو للإسلام وللمسلمين، ومقاومتهم فرض.
- حماية الأمة وحماية الخلافة ضرورة إسلامية مطلقة. إذا ساعد الإخوة في هذه البلاد وعاونوا في هذه القضية فلهم وافر الشكر على ذلك.
أُطلق سراح شيخ الهند مولانا محمود حسن، مدير دار علوم ديوباند، المذكور سابقاً، وعاد إلى بومباي في 20 رمضان 1338هـ، الموافق 8/6/1920م. وبعد عودته ساهم بنشاط في حركة الخلافة. كتب خليفته مولانا حسين أحمد مدني، «بعد تحمله عناء السجن والنفي، وبعد أن عاد شيخ الهند، رحمه الله، إلى الهند لم نجد تغيراً في عزيمته لمكافحة النظام الاستعماري وفي كراهيته للبريطانيين. لقد أقلقه فرض الحكم العرفي في البلاد، وتطبيق مرسوم رولات ومذبحة جالياناوالا باغ في البلاد، وتفكيك الدولة العثمانية، والمعاملة غير الإنسانية تجاه الأتراك خارج الهند. وبمجرد أن وطئت قدماه بومباي قابل مولانا شوكت علي وأعضاء آخرين من لجنة (حركة الخلافة). وجاء لاستقبال شيخ الهند مولانا محمود حسن في بومباي كل من مولانا عبد الباري من فرانجي محل، لوكنو، ومهاتما غاندي من أحمد أباد. وبعد أن تحدث شيخ الهند معهم ومع قادة آخرين في لجنة الخلافة على انفراد وأمام الناس وافق الشيخ على بدء الحركة السلمية لتحرير الهند». (نشق الحياة، المجلد الثاني، ص247).
تبين إحدى الفتاوى التي أصدرها الشيخ وجهة نظره تجاه التعاون مع المستعمرين. ورغم أنها صدرت عام 1920م فإن كثيراً من النقاط التي ذكرها فيها لاتزال تنطبق اليوم:
«لم يوفر أعداء الإسلام جهداً لضرب وإيذاء شرف وهيبة الإسلام. فالعراق وفلسطين وسوريا التي فتحت من قبل صحابة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأتباعه بعد تضحيات لا تحصى عادت مرة أخرى لتصبح أهدافاً لجشع أعداء الإسلام. تمزّق شرف الخلافة. وخليفة المسلمين الذي كان يوحد جميع الأمة الإسلامية على وجه الأرض، والذي كان بوصفه خليفة رسول الله على هذه الأرض يطبق نظام الإسلام العالمي، والذي كان يحمي حقوق ومصالح المسلمين، والذي كان حريصاً على الحفاظ على مجد وحي خالق هذا الكون وعلى تطبيقه، قد أصبح هذا الخليفة محاطاً بالأعداء كما جرى الاستغناء عنه... انخفضت منزلة راية الإسلام اليوم. وتشعر أرواح حضرة أبو عبيدة وسعد بن أبي وقاص وخالد بن الوليد، رضي الله عنهم، بالقلق اليوم. لماذا كان كل ذلك؟ إنه بسبب أن المسلمين فقدوا كرامتهم وشرفهم والثقة بأنفسهم. فالشجاعة والحمية الدينية التي كانت مكمن قوتهم وميراثهم قد افتقدوها بسبب جهلهم وانشغالهم المفرط بتوافه الأمور.
لم يعد كافياً أن المسلم لا يساعد أخاه المسلم وقت الشدة، بل المأساة أن اللهفة على كسب ودّ وصداقة الكافر جعلت الأخ يقطع رأس أخيه. لقد شرب المسلمون دم المسلمين. لقد غمس المسلمون أيديهم في دماء إخوانهم.
يا أبناء الإسلام! ويا محبّي هذه الأمة العظيمة! إنكم تعلمون أن العاصفة والنار التي أحرقت الخيام في العالم الإسلامي وأشعلت النيران في حصن الخلافة الإسلامية قد أنجزت بأيدي أعوان الإنجليز من العرب والهنود. وأن مخزون الثروة التي أنفق منها النصارى في إخضاع الشعوب الإسلامية، جاء النصيب الأكبر منها من كدّكم.
فهل يوجد مسلم غني وجاهل لا يفهم النتائج القاتلة للتعاون مع النصارى؟ حتى الغريق الذي يتعلق عادةً بأية (قشة) لينجو من الغرق لو تعلق بهم فإنهم سيزيدونه غرقاً! (من فتوى مولانا محمود حسن في 16 صفر 1339هـ الموافق 29/10/1920م، سجناء مالطا، مولانا سيد محمد ميان، جمعية العلماء - I - الهند، الطبعة الإنجليزية، ص78- 79).
وعلى خلاف ما يقوله بعض علماء (مشايخ السلاطين) اليوم من انفصال السياسة عن الإسلام، فإن علماء ذلك الزمان أكدوا ارتباطهما الذي لا ينفصم. وقبيل هدم الخلافة عقدت الندوة الرابعة لجمعية علماء الهند في جايا في 24/12/1923م، حيث اجتمع في تلك الندوة العلماء الفقهاء ومعلمو الإسلام من كل أطراف الهند، وبحثوا باستفاضة القضية المتعلقة بالمستقبل السياسي للأمة الإسلامية. وبعد مباحثات مضنية توصلت الندوة بالإجماع إلى وجهة النظر القائلة بأن السياسة والدين جزءان من الإسلام لا ينفصلان.
وبعد مشاهدته للتأثير الواسع لحركة الخلافة، فإن الهندوسي، أبو حكومة الهند الحالية، مهاتما غاندي التحق بالحركة وأصبح عضواً في لجنتها المركزية.
ولكن بعد هدم الخلافة على يد مصطفى كمال في 3/3/1924م ماتت الحركة، ورأى الكثيرون استحالة إعادة الخلافة، فركزّوا على كيفية تحرير الهند من الاستعمار البريطاني.
وبعد إلغاء الخلافة بيوم واحد قال مولانا محمد علي جوهر كما ورد في صحيفة التايمز اللندنية يوم 4/3/1924م: «من الصعب توقع الآثار الحقيقة لإلغاء الخلافة على عقول المسلمين في الهند. أؤكد بكل ثقة أنها ستكون مأساةً للإسلام وللحضارة. إن قمع المؤسسة التي كانت تحظى بالاحترام والتي اعتبرت عبر العالم الإسلامي رمزاً للوحدة الإسلامية سيكون سبباً في تفكك المسلمين...».
كم كانت كلمةً صائبةً! فبعد إلغائها شاهد العالم الإسلامي ما قاله تماماً. واليوم وبعد أكثر من ثمانين عاماً على هدمها، أصبحت الخلافة ثانيةً كلمةً ذات وقع مؤثر في وسائل الإعلام على جميع الأطراف، فمن ناحية يخاف السياسيون والمفكرون والقادة في الغرب من عودتها، ومن ناحية أخرى يتوق المسلمون لإعادة إقامتها. فقد قال رئيس الولايات المتحدة جورج بوش الابن في مؤتمر صحفي أمام البيت الأبيض يوم الأربعاء 11/10/2006م: «يحاول المتطرفون إرعاب الناس العقلانيين من أجل إسقاط الحكومات المعتدلة لبسط الخلافة. لا يمكن أن تكون المخاطر في العالم الذي نعيشه أعظم خطورة من ذلك، كما سبق أن قلت. هناك عناصر متطرفة تستعمل الدين من أجل تحقيق أهدافها. ونحن لن نترك الوقوف ضد أهدافهم، ولن نمكنهم من إسقاط الحكومات المعتدلة، إنهم يريدون بسط خلافة مبدئية لا مكان لفكرة الحرية في عقائدها».
يجب على الغرب أن يدرك أن الخلافة جزء أصيل من الإسلام، وأنها لا بد قائمة بإذن الله، فلو كانوا حكماء لفكروا في كيفية بناء علاقات معها مستقبلاً بدلاً من شجبها وحياكة المؤامرات ضد قيامها.
إن الخلافة ستعود بإذن الله، وستحرر شبه القارة الهندية مرة أخرى...
اللهم اجعلنا ممن يشاركون في إقامة الخلافة اليوم كما فعل أسلافنا في الماضي.
[انتهى]
إن من يقرأ كيف تفاعلت الهند وعلماؤها مع أحداث إلغاء الخلافة ليأخذه الإكبار على فهمهم العميق والمشرق لأهمية الخلافة في حياة المسلمين، ولوعيهم الكامل لدورها في جمع المسلمين وتحقيق أهداف الإسلام، ولمدى خطورة هذا الحدث عليهم، ويلفته كذلك موقفهم من تلك اليد المجرمة التي طعنت الأمة الإسلامية في قلبها «الخلافة»، تلك اليد التي هي بريطانيا التي سخرت أيدي الخونة من أبناء المسلمين الذين غمسوا أيديهم في دماء إخوانهم...
والجزء الثاني من هذه المقالة يكشف المواقف الصادقة والمخلصة لبعض علماء الهند الذين مضوا لأمر ربهم لتبقى آثارهم تدل عليهم، وتنقل لوعتهم بكلمات صادقات مازالت حتى اليوم تشهد الوقائع بصدقها وإخلاصها ووعيها... وكفى بالله شهيداً.
________________________________________________________
حركة الخلافة
بدأ في سبتمبر 1919م مولانا محمد علي وأخوه شوكت علي بالمشاركة مع أبي الكلام أزاد، ودكتور مختار أحمد أنصاري وحسرت مهاني، بدأوا منظمة جديدة باسم (حركة الخلافة) في الفترة (1919م - 1924م). كان هدفهم المعلن عمل كل ما يمكن عمله من أجل حماية الخلافة. فنظموا مؤتمرات خلافة في عدة مدن شمال الهند. ومن الملاحظ أن العلماء والنشطاء الذين كونوا حركة الخلافة جاؤوا من مذاهب متعددة وخلفيات فكرية مختلفة. فمولانا أبو الكلام أزاد مثلاً معروف أنه يجتهد ولا يقلد، حيث كان يعتقد أن تقليد المذاهب حرام. أما مولانا محمود حسن فكان ديوبندياً يتبع المذهب الحنفي، ومع هذا اتحدوا معاً تحت هدف العمل للحفاظ على الخلافة.
وفي عام 1919م لما بدأ مصطفى كمال يسرِّب إمكانية فصل الخلافة عن السلطنة أي عن الحكم، أعلنت لجنة الخلافة في بومباي هدفين تنظيميين مهمين وهما: «الأول هو الحثّ على احتفاظ سلطان تركيا بوصفه خليفة بسلطاته الدنيوية. أما الثاني فهو ضمان استمرار سيادته على الأماكن الإسلامية المقدسة».
وفي خطابه الرئاسي في اجتماع كلكوتا لمؤتمر الخلافة الإقليمي البنغالي عام 1920م بحث مولانا أزاد أهمية الخلافة معلناً: «إن هدف هذه المؤسسة هو تنظيم وقيادة الأمة الإسلامية في الطريق الصحيح لإقامة العدل وتحقيق السلام ونشر كلمة الله في العالم. ومن أجل كل ذلك كان من الضروري جداً للخليفة أن يمتلك السلطة الدنيوية». لم يكن هناك شكّ لدى مولانا أزاد «أنه بدون إمام فإن حياتهم غير إسلامية وأنه سيحكم عليهم بالإثم بعد الموت».
نشر مولانا أزاد عام 1920م كتاباً بعنوان (مسألة الخلافة) حيث قال فيه: «بدون الخلافة لا يمكن وجود الإسلام، ويلزم أن توجّه كل جهود المسلمين في الهند من أجل هذا الهدف».
ويقول مولانا أزاد في الكتاب نفسه في صفحة 176: «يوجد نوعان من الأحكام الشرعية: الأول يتعلق بالفرد كالأوامر والمحرمات والفرائض والواجبات من أجل تهذيب النفس. أما الثاني فلا يتعلق بالفرد بل بالأمة والواجبات الجماعية وسياسات الدولة مثل فتح البلدان والقوانين السياسية والاقتصادية».
وكما يقول بيتر هاردي فإن مولانا أزاد كان يعتقد بأن: «المسلم الذي يريد فصل الدين عن السياسة هو في نظر المسلمين مرتد يعمل بصمت».
كانت خسارة السلطة السياسية في الهند لصالح الإنجليز، وكونهم أصبحوا المتسلطين على الهند، وكذلك التهديد من مجموعة من القوى وتحركها على نزع السلطة الدنيوية من الخليفة، كانت هذه الأمور مقلقةً جداً لقادة المسلمين في الهند لدرجة أن بعضهم شعر بضرورة إصدار فتاوى «لصالح الهجرة من الهند».
أصدر مولانا أبو الكلام أزاد فتوى نشرت في الجريدة اليومية «أهل الحديث» الصادرة في أمريستار في 30 تموز 1920م، حيث حثّ في هذه الفتوى على الهجرة من الهند كخيار بديل لعدم التعاون مع البريطانيين.
ذكرت فتوى مولانا عبد الباري «بأن كل مسلم مقيم هنا عليه تبني عدم التعاون، ولكن إذا كان مستحيلاً فعليه أن يشرع في الهجرة». وأصدر مولانا شوكت تصريحاً باسم لجنة الخلافة المركزية «يعبر عن الأمل بأن يبقى المسلمون الملتزمون في الهند، وأن يعملوا من أجل عدم التعاون. ولكنه فقط في حالة عدم نجاحهم في ذلك يمكنهم النظر في اللجوء إلى خيار الهجرة». كان تأثير الفتوى مثيراً لدرجة أن آلافاً من المسلمين فضلوا مغادرة دار الكفر حيث انتهِكت حرمة حقوقهم الدينية المتمثلة في منصب الخليفة العثماني.
لم تكن مسألة الخلافة مسألة سياسية فحسب ولكن مسألة «الخلاص من الخطيئة أو الوقوع فيها». فإذا فقدت تركيا أقاليمها، فسيكون الإسلام كمبدأ في خطر. وقد أفصح مولانا شوكت عن عاطفته في خطابه الرئاسي في الاجتماع العاشر لمؤتمر الخلافة لكل الهند في 27/12/1923م قائلاً: «طالما كان هناك بوصة واحدة من جزيرة العرب تحت نفوذ غير المسلمين فلن يهدأ بال المسلم». (مسلمو الهند، شان محمد، ميناكشي براكاشان، 1981م، المجلد السابع، صفحة 209).
وقد شدّد محمد عاصف على أهمية الواجب الشرعي في وجود الخلافة في كتاب بعث به إلى محرر صحيفة الرفيق (كومريد) في 2 تشرين ثاني عام 1921م، حيث قال: «هيبة تركيا تتطابق مع هيبة الإسلام، ووجود الدولة العثمانية ضروري للتقدم الحياتي (الدنيوي) للسلالات (الشعوب) الإسلامية... وسيختفي الإسلام كقوة حضارية بحلّ الدولة العثمانية... وإذا سقطت تركيا فالإسلام لا يستطيع الصمود. لذلك فإن تركيا هي العمود الفقري للإسلام». وأيّد وجهة النظر هذه مولانا محمد علي الذي أكّد بأنّ هذا الموقف يعكس أيضاً الرأي العام لعامة المسلمين.
قرر اجتماع أنجومان معيد الإسلام تحت رعاية فرانجي محل في لوكنو في 26/1/1919م بأنه: «في الوقت الذي يعبر اجتماع علماء فرانجي محل هذا عن ولائه الثابت والمخلص للسلطان محمد السادس، فإنه يعلن بشكل مؤكد بأنه حسب عقائد الإسلام الصحيحة لا أحد غير سلطان تركيا الحالي يعتبر الخليفة الشرعي، وأن الإسلام لا يسمح أبداً بتدخّل غير المسلمين في تقرير مسألة الخلافة».
وفي الحقيقة أكّد آنذاك كثير من العلماء أمثال سيد سليمان ندوي على وجوب وجود خلافة. صرّح مولانا الندوي أنّ: «العلاّمة نصفي والإمام رازي والقاضي أوزود ضمن علماء آخرين كبار يبحثون الموضوع مع الرعايا بإسهاب في كتبهم وسيعتبر ذلك الكلمة الفصل في المسألة...
وجاء في كلمة ألقاها مولانا محمد علي في باريس عام 1920م: «تعتبر الخلافة أكثر مؤسسة ضرورية للأمة الإسلامية في العالم. والأغلبية الساحقة من المسلمين في العالم يعترفون بسلطان تركيا كأمير للمؤمنين وكوريث لخليفة نبيهم. وكجزء جوهري من هذا المعتقد أن يكون للخليفة، أمير المؤمنين، أقاليم كافية ومقدرات عسكرية وبحرية مناسبة وموارد مالية ملائمة».
وقال سيد حسين الذي شارك محمد علي منصة اجتماع باريس: «إذا كان للإسلام أن يوجد في العالم فمن الضروري تماماً أن يكون للإسلام خلافة. هكذا كان التاريخ والعرف في الإسلام منذ نشأته قبل 14 قرناً».
وقال مولانا محمد علي جوهر أيضاً: «كان حاكم تركيا هو الخليفة وخليفة النبي وأمير المؤمنين، ومن الضروري أن تكون الخلافة همّنا الديني شأنها شأن القرآن وسنة النبي». (حياتي شظية، محمد علي جوهر، ص41).
ولقد تولّى العلماء في الحقيقة دوراً قيادياً في حركة الخلافة. وهذه بعض النقاط الأساسية التي وردت في مؤتمر عقد من قبل العلماء في الهند 5 و6/4/1920م، حيث حضره كثير من العلماء:
النقطة الأولى: يجب أن يعمل العلماء لإيجاد رأي عام لقضية الخلافة.
النقطة الثانية: يجب مقاطعة العلماء المنافقين والعلماء المعارضين لهذه القضية.
النقطة السابعة: يجب أن يأخذ العلماء عهداً من أتباعهم بأن يبذلوا حياتهم وقلوبهم للحديث والكتابة في دعم قضية الخلافة.
النقطة التاسعة: يجب أن يبتعد المسلمون عن الانتخابات الدستورية.
وهذه بعض النقاط من الإعلان الصادر عن مؤتمر كل الهند الثاني لجمعية علماء الهند الذي عقد في 19 و20/11/1920م في دلهي التي تبين أيضاً مساندتهم لقضية الخلافة:
- الإنجليز هم أكبر عدو للإسلام وللمسلمين، ومقاومتهم فرض.
- حماية الأمة وحماية الخلافة ضرورة إسلامية مطلقة. إذا ساعد الإخوة في هذه البلاد وعاونوا في هذه القضية فلهم وافر الشكر على ذلك.
أُطلق سراح شيخ الهند مولانا محمود حسن، مدير دار علوم ديوباند، المذكور سابقاً، وعاد إلى بومباي في 20 رمضان 1338هـ، الموافق 8/6/1920م. وبعد عودته ساهم بنشاط في حركة الخلافة. كتب خليفته مولانا حسين أحمد مدني، «بعد تحمله عناء السجن والنفي، وبعد أن عاد شيخ الهند، رحمه الله، إلى الهند لم نجد تغيراً في عزيمته لمكافحة النظام الاستعماري وفي كراهيته للبريطانيين. لقد أقلقه فرض الحكم العرفي في البلاد، وتطبيق مرسوم رولات ومذبحة جالياناوالا باغ في البلاد، وتفكيك الدولة العثمانية، والمعاملة غير الإنسانية تجاه الأتراك خارج الهند. وبمجرد أن وطئت قدماه بومباي قابل مولانا شوكت علي وأعضاء آخرين من لجنة (حركة الخلافة). وجاء لاستقبال شيخ الهند مولانا محمود حسن في بومباي كل من مولانا عبد الباري من فرانجي محل، لوكنو، ومهاتما غاندي من أحمد أباد. وبعد أن تحدث شيخ الهند معهم ومع قادة آخرين في لجنة الخلافة على انفراد وأمام الناس وافق الشيخ على بدء الحركة السلمية لتحرير الهند». (نشق الحياة، المجلد الثاني، ص247).
تبين إحدى الفتاوى التي أصدرها الشيخ وجهة نظره تجاه التعاون مع المستعمرين. ورغم أنها صدرت عام 1920م فإن كثيراً من النقاط التي ذكرها فيها لاتزال تنطبق اليوم:
«لم يوفر أعداء الإسلام جهداً لضرب وإيذاء شرف وهيبة الإسلام. فالعراق وفلسطين وسوريا التي فتحت من قبل صحابة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأتباعه بعد تضحيات لا تحصى عادت مرة أخرى لتصبح أهدافاً لجشع أعداء الإسلام. تمزّق شرف الخلافة. وخليفة المسلمين الذي كان يوحد جميع الأمة الإسلامية على وجه الأرض، والذي كان بوصفه خليفة رسول الله على هذه الأرض يطبق نظام الإسلام العالمي، والذي كان يحمي حقوق ومصالح المسلمين، والذي كان حريصاً على الحفاظ على مجد وحي خالق هذا الكون وعلى تطبيقه، قد أصبح هذا الخليفة محاطاً بالأعداء كما جرى الاستغناء عنه... انخفضت منزلة راية الإسلام اليوم. وتشعر أرواح حضرة أبو عبيدة وسعد بن أبي وقاص وخالد بن الوليد، رضي الله عنهم، بالقلق اليوم. لماذا كان كل ذلك؟ إنه بسبب أن المسلمين فقدوا كرامتهم وشرفهم والثقة بأنفسهم. فالشجاعة والحمية الدينية التي كانت مكمن قوتهم وميراثهم قد افتقدوها بسبب جهلهم وانشغالهم المفرط بتوافه الأمور.
لم يعد كافياً أن المسلم لا يساعد أخاه المسلم وقت الشدة، بل المأساة أن اللهفة على كسب ودّ وصداقة الكافر جعلت الأخ يقطع رأس أخيه. لقد شرب المسلمون دم المسلمين. لقد غمس المسلمون أيديهم في دماء إخوانهم.
يا أبناء الإسلام! ويا محبّي هذه الأمة العظيمة! إنكم تعلمون أن العاصفة والنار التي أحرقت الخيام في العالم الإسلامي وأشعلت النيران في حصن الخلافة الإسلامية قد أنجزت بأيدي أعوان الإنجليز من العرب والهنود. وأن مخزون الثروة التي أنفق منها النصارى في إخضاع الشعوب الإسلامية، جاء النصيب الأكبر منها من كدّكم.
فهل يوجد مسلم غني وجاهل لا يفهم النتائج القاتلة للتعاون مع النصارى؟ حتى الغريق الذي يتعلق عادةً بأية (قشة) لينجو من الغرق لو تعلق بهم فإنهم سيزيدونه غرقاً! (من فتوى مولانا محمود حسن في 16 صفر 1339هـ الموافق 29/10/1920م، سجناء مالطا، مولانا سيد محمد ميان، جمعية العلماء - I - الهند، الطبعة الإنجليزية، ص78- 79).
وعلى خلاف ما يقوله بعض علماء (مشايخ السلاطين) اليوم من انفصال السياسة عن الإسلام، فإن علماء ذلك الزمان أكدوا ارتباطهما الذي لا ينفصم. وقبيل هدم الخلافة عقدت الندوة الرابعة لجمعية علماء الهند في جايا في 24/12/1923م، حيث اجتمع في تلك الندوة العلماء الفقهاء ومعلمو الإسلام من كل أطراف الهند، وبحثوا باستفاضة القضية المتعلقة بالمستقبل السياسي للأمة الإسلامية. وبعد مباحثات مضنية توصلت الندوة بالإجماع إلى وجهة النظر القائلة بأن السياسة والدين جزءان من الإسلام لا ينفصلان.
وبعد مشاهدته للتأثير الواسع لحركة الخلافة، فإن الهندوسي، أبو حكومة الهند الحالية، مهاتما غاندي التحق بالحركة وأصبح عضواً في لجنتها المركزية.
ولكن بعد هدم الخلافة على يد مصطفى كمال في 3/3/1924م ماتت الحركة، ورأى الكثيرون استحالة إعادة الخلافة، فركزّوا على كيفية تحرير الهند من الاستعمار البريطاني.
وبعد إلغاء الخلافة بيوم واحد قال مولانا محمد علي جوهر كما ورد في صحيفة التايمز اللندنية يوم 4/3/1924م: «من الصعب توقع الآثار الحقيقة لإلغاء الخلافة على عقول المسلمين في الهند. أؤكد بكل ثقة أنها ستكون مأساةً للإسلام وللحضارة. إن قمع المؤسسة التي كانت تحظى بالاحترام والتي اعتبرت عبر العالم الإسلامي رمزاً للوحدة الإسلامية سيكون سبباً في تفكك المسلمين...».
كم كانت كلمةً صائبةً! فبعد إلغائها شاهد العالم الإسلامي ما قاله تماماً. واليوم وبعد أكثر من ثمانين عاماً على هدمها، أصبحت الخلافة ثانيةً كلمةً ذات وقع مؤثر في وسائل الإعلام على جميع الأطراف، فمن ناحية يخاف السياسيون والمفكرون والقادة في الغرب من عودتها، ومن ناحية أخرى يتوق المسلمون لإعادة إقامتها. فقد قال رئيس الولايات المتحدة جورج بوش الابن في مؤتمر صحفي أمام البيت الأبيض يوم الأربعاء 11/10/2006م: «يحاول المتطرفون إرعاب الناس العقلانيين من أجل إسقاط الحكومات المعتدلة لبسط الخلافة. لا يمكن أن تكون المخاطر في العالم الذي نعيشه أعظم خطورة من ذلك، كما سبق أن قلت. هناك عناصر متطرفة تستعمل الدين من أجل تحقيق أهدافها. ونحن لن نترك الوقوف ضد أهدافهم، ولن نمكنهم من إسقاط الحكومات المعتدلة، إنهم يريدون بسط خلافة مبدئية لا مكان لفكرة الحرية في عقائدها».
يجب على الغرب أن يدرك أن الخلافة جزء أصيل من الإسلام، وأنها لا بد قائمة بإذن الله، فلو كانوا حكماء لفكروا في كيفية بناء علاقات معها مستقبلاً بدلاً من شجبها وحياكة المؤامرات ضد قيامها.
إن الخلافة ستعود بإذن الله، وستحرر شبه القارة الهندية مرة أخرى...
اللهم اجعلنا ممن يشاركون في إقامة الخلافة اليوم كما فعل أسلافنا في الماضي.
[انتهى]
أبو إسماعيل البيرواي
Comments